لقد كان المولد النبوي الشريف إطلالة للرحمة الإلهية بالنسبة للتاريخ البشري كله, وعبر القرآن الكريم عن وجود النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين وهذه الرحمة لم تكن محدودة، فهي تشمل تربية البشر وتزكيتهم وتعليمهم وهدايتهم نحو الصراط المستقيم، وتقديمهم على صعيد حياتهم المادية والمعنوية, كما أنها لا تقتصر على أهل ذلك الزمان, بل تمتد عبر العصور كلها: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الجمعة:3].
والاحتفال بذكرى مولد سيد الكونين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبي الرحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال وأعظم القربات, إذ هو تعبير عن الفرح والحب للنبي صلى الله عليه وسلم, ومحبة النبي أصل من أصول الإيمان, وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (صحيح البخاري 1/41) وقال ابن رجب الحنبلي: محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان وهي مقارنة لمحبة الله عز وجل, وقد قرنها الله بها, وتوعد من قدم عليهما محبة شيء من الأمور المحببة طبعا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك..( فتح الباري لابن رجب 1/84).
فلا يتحقق كمال الإيمان لعبد حتى تبلغ محبته للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك القدر الذي أراده صلى الله عليه وسلم من سيدنا عمر رضي الله عنه, وتلك هي الدرجة التي ينبغي لكل مسلم أن يتطلع إليها, وهذا لا تعارض بينه وبين حب الله, فالمرء يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه من جهة الله, فأساس حبنا لرسول الله هو حب الله, وليس هناك مخلوق تجلي الله بصفات جماله وكماله عليه كسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, والإنسان يحب التجليات الإلهية التي كان رسول الله هو المرآة التي تعكسها لنا, فالحب لله وحده, وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل قلوبنا هو حب لله ولا تنافي بينهما.
ولقد كان للتابعين وسلف الأمة مظاهر تؤكد وصولهم إلى درجة كمال محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهذا عبيدة بن عمرو السلماني كان يقول: سلأن يكون عندي منه شعرة -أي من شعر النبي صلى الله عليه وسلم- أحب إلي من كل صفراء وبيضاء أصبحت على وجه الأرض وفي بطنها». قال الإمام الذهبي معقبا: «هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب, وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس». ومثل هذا يقوله ذلك الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة, فما الذي نقوله نحن في وقتنا لو وجدنا بعض شعره صلى الله عليه وسلم بإسناد ثابت, أو شسع نعل كان له. أو قلامة ظفر, أو شقفة من إناء شرب فيه! فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك عنده لكنا نعده مبذرا أو سفيها؟ كلا، وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخد يده فقبلها, ويقول: «يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم». فنقول نحن إذا فاتنا ذلك: حجر معظم بمنزلة يمين الله في الأرض مستة شفتا نبينا صلى الله عليه وسلم لاثما له (سير أعلام النبلاء4/24).
لكل ذلك وغيره فرحت الأكوان بمجيئه صلى الله عليه وسلم, الجماد, والنبات والحيوان والإنسان, فيا فرحة من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ويا لسروره! ولقد أظهرت الأكوان كلها الحب للنبي صلى الله عليه وسلم في منشئه وفي وجوده, ومن ذلك ما قاله: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن» (صحيح مسلم 4/2871) إنه يعلمه ويشاهده ويسمعه وهو يسلم عليه, تثبيتا لفؤاده الشريف, وإكراما لمقامه عند ربه, وتدرجا به للاتصال بعالم الغيب, والنبي صلى الله عليه وسلم أمسك حصى فسبح الحصى في يده وأصله في الصحيح, ولكن زاد البيهقي في الدلائل أيضا: أن الحصى لما سبح بين يديه وسمعه أصحابه ناوله إلى أبي بكر فسبح الحصى في يديه وكذلك في يد عمر وعثمان رضي الله عنهم. (مجمع الزوائد 8/992).
إذن لقد حق لنا أن نفرح برسول الله, ولنحب رسول الله, ونعلم أبناءنا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما لنا نجاة من الفتن ما ظهر منها وما بطن إلا برسول الله, فلنلتف حول سنته وشريعته ومقامه الكريم, بقلوبنا وعقولنا وسلوكنا, بأموالنا وبأنفسنا, وسبيل ذلك الحب أن نكثر من الصلاة والسلام عليه بالليل والنهار (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
لم تقتصر مشاركة الصحابيات في الحراك العلمي على علوم القرآن والحديث والفقه فقط، بل تجاوزته إلى مجال الأدب شعرا ونثرا، فوقفن على صف واحد مع كبار شعراء الصحابة مثل حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير.
فالباحث المدقق في السيرة أديبات والتاريخ الإسلامي والأدب العربي يوقن بأن للصحابيات مشاركات في الأدب لا تقل عن مشاركات الصحابة بلاغة وإبداعا، فقد عرف عن عدة منهن قرض الشعر وانشاء النثر، فمن عرف عنهن ذلك، أروى بنت عبد المطلب وصفية بنت عبد المطلب عمتا رسول الله، والخنساء، ورقية بنت صيفي، وسعدي العبشمية خالة عثمان بن عفان رضي الله عنه، والشيماء بنت الحارث، وعائكة بنت زيد، وقتيلة بنت النضر، وغيرهن كثير.
أما صفية بنت عبد المطلب فهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشقيقة حمزة رضي الله عنه ووالدة الزبير بن العوام، أسلمت وروت وعاشت إلى خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت أديبة شاعرة رثت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا |
* |
وكنت بنا برا ولم تك جافيا |
وكنت رحيما هاديا ومعلما |
* |
ليبك عليك اليوم من كان باكيا |
لعمرك ما أبكي النبي لفقده |
* |
ولكن لما أخشى من الهرج آتيا |
كأن على قلبي لذكر محمد |
* |
وما خفت من بعد النبي المكاويا |
أفاطم صلى الله رب محمد |
* |
على حدث أمسى بيثرب ثاويا |
فدى لرسول الله أمي وخالتي |
* |
وعمي وآبائي ونفسي وماليا |
فلو أن رب الناس أبقى نبينا
|
* |
سعدنا ولكن أمره كان ماضيا |
(تفسير القرطبي 4/224).
وكذلك كانت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما من الفصيحات البليغات العالمات بالأنساب والأشعار، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منها إلى بعض ما ترويه من الشعر، وقد تواترت الأخبار عن فصاحتها رضي الله عنها وبراعتها في الشعر، فعن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ربما روت عائشة القصيدة ستين بيتا ومائة بيت (الطبقات الكبري لابن سعد 8/72). وكانت رضي الله عنها ما ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا، فعن عبد الرحمن بن أبي الزياد عن أبيه قال: ما رأيت أحدا أروى للشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك؟ فقال: ما روايتي في رواية عائشة؟! ماكان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا (الإصابة لابن حجر 8/18).
لقد بلغت أم المؤمنين عائشة من الفصاحة والبيان مبلغا عظيما، مما دفع كبار الصحابة إلى الثناء عليها والإعجاب بفصاحتها وبلاغتها العالية، فها هو معاوية رضي الله عنه يقول: والله ما سمعت خطيبا ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ من عائشة رضي الله عنها (البداية والنهاية 8/132)، ومن أقوالها الجامعة فصاحة وإنجازا رضي الله تعالى عنها: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، وتقول: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة: التواضع، ولما قبض أبوها أبو بكر رضي الله عنه ودفن قامت على قبره، وقالت: نضر الله يا أبت وجهك وشكر لك صالح سعيك، فلقد كنت للدنيا مذلا بإدبارك عنها، وللآخرة معزا، بإقبالك عليها، ولئن كان أعظم المصائب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزءك، وأكبر الأحداث بعده فقدك، فإن كتاب الله عز وجل ليعدنا بالصبر عنك حسن العوض منك، وأنا منتحزة من الله موعودة فيك بالصبر عليك، ومستعينته بكثرة الاستغفار لك، فسلام الله عليك، توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك (تاريخ دمشق لابن عساكر30/443).
وقد فاق بعض الصحابيات الرجال في الشعر بلاغة وإبداعا، والمثال على ذلك أم الشهداء، تماضر بنت عمرو رضي الله عنها الملقبة بالخنساء، التي أجمع علماء الشعر على أنه لم تكن امرأة أشعر منها، اشتهر رثاؤها في أخويها معاوية وصحر وعظم مصابها، وأنشدت الخنساء في سوق عكاظ بين يدي النابغة الذبياني هي والأعشى وحسان بن ثابت فقال لها النابغة: والله لولا أن أبا بصير الأعشى أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس (خزانة الأدب للبغدادي 8/114)، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنشدها ويعجبه شعرها، وكانت تنشده وهو يقول: هيه يا خناس ويومي بيده (الإصابة 7/614).
والمتأمل في شعر الصحابيات ونثرهن يلحظ الصدق والسليقة والروحانية ورهافة الحس ومناصرة الدعوة والرسالة، مما يدل على حضورهن القوي ومشاركتهن الفعالة في المجتمع في عهد النبوة، وشعرهن ونثرهن في ذلك جزء لا يتجزأ من التراث الأدبي العربي والإسلامي، فرضي الله عنهن.
لقد كان من أثر عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابيات أن حفل العهد النبوي بنماذج مشرقة لنساء قدمن تراثا فقهيا متميزا; فقد كانت المرأة حاضرة في المجتمع العلمي منذ اللحظة الأولى لظهور الإسلام,فكانت تتعلم وتعلم وتفتي, وكان حرص النساء على العلم الشرعي والاهتمام به في ذلك العهد واضحا جليا, حتى إن النساء قلن لرسول الله صلى الله عليه وسلم اجعل لنا يوما كما جعلته للرجال.
فجاء صلى الله عليه وسلم إلى النساء فوعظهن وعلمهن, (صحيح البخاري 1/421).
وقد كان من أثر ذلك أن كثر في الصحابيات المحدثات والفقيهات; فقد ترجم الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة لأكثر من ألف وخمسمائة امرأة منهن الفقيهات والمحدثات والأديبات.وكان أكثر الصحابيات علما بالفقه أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن; وخاصة عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش, وممن اشتهر عنهن الفتيا من غيرهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما, وها هي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها فقيهة أهل المدينة وأكثرهن تلقيا للعلم; قال عنها صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (صحيح البخاري 3/1252) فقد كانت رضي الله عنها من أعلم الناس بأحكام الإسلام, قال عنها الإمام الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل, (الإجابة للزركشي ص56).
وتميزت أم المؤمنين عائشة بهذه المنزلة في العلم لعدة عوامل; منها ما وهبها الله من الذكاء والفطنة وسرعة الحافظة, ومنها زواجها في سن مبكرة من النبي ونشأتها في بيت النبوة مع كثرة ما نزل من الوحي في حجرتها, ومنها حبها للعلم والمعرفة, قال عنها ابن أبي مليكة: كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه. (صحيح البخاري 1/51) وقال ابن كثير لم يكن في الأمم مثل عائشة في حفظها وعلمها, وفصاحتها وعقلها, (البداية والنهاية 3/129).
وقد كانت رضي الله عنها مرجعا لأصحاب رسول الله عندما يختلفون في أمر; فيستفتونها ويجدون لديها حلا لما أشكل عليهم, وكانت تحث سائلها ألا يستحي من عرض مسألته, وتقول له سل فأنا أمك, يقول الصحابي الجليل أبو موسي الأشعري رضي الله عنه: ما أشكل علينا -أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما, (سنن الترمذي 5/705).
وقد اشتغلت أم المؤمنين عائشة بالفتوى من خلافة أبي بكر إلى أن توفيت, ولم تكتف رضي الله عنها بنقل ما عرفته من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما اجتهدت في استنباط الأحكام للوقائع التي لم تجد لها حكما في الكتاب أو السنة, حتى قيل: إن ربع الأحكام الشرعية منقولة عنها.
والأعجب من ذلك أنها استقلت ببعض الآراء الفقهية التي خالفت بها آراء الصحابة, كما استدركت على كبار الصحابة عدة مسائل في الفقه وغيره ومن ذلك استدراكها علي عمر رضي الله عنه نهيه عن البكاء علي الميت, واستدراكها على ابن عمر قوله: إن في القبلة الوضوء: حيث قالت: كان رسول الله يقبل وهو صائم ثم لا يتوضأ. وغير ذلك كثير مما جمعه الزركشي في كتابه (الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة).
وعلى هذا النحو من العلم والفقه نجد أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها; فقد كانت كما وصفها الذهبي: من فقهاء الصحابيات, (سير أعلام النبلاء 2/203), وكانت أيضا من الأذكياء الحكماء; ويدل على ذلك استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها عند صلح الحديبية.
واشتهرت أم سلمة رضي الله عنها بعد وفاة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالرواية والفتيا لكونها آخر من تبقى من أمهات المؤمنين; الأمر الذي جعل مروياتها كثيرة; إذ جمعت بين الأحكام والتفسير والآداب والأدعية وغيرها.
ومرويات أم سلمة رضي الله عنها معظمها في أحكام العبادات كالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج, وكذلك في أحكام الجنائز والأدب والنكاح وغير ذلك.
ومن هذه النماذج وغيرها يظهر لنا أن المرأة المسلمة ضربت بسهم وافر في جميع ميادين الحياة عبر تاريخ الأمة الإسلامية, فقد نبغ في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي الكثير من العالمات المبرزات في أنواع العلوم وفروع المعرفة وحقول الثقافة العربية الإسلامية, بما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام أعطى للمرأة حقها, وصان كرامتها, وحثها على العلم, وأعدها للقيام بدورها في المجتمع.
حرصت الصحابيات رضي الله عنهن على التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأقبلن على مجالسه, وأقدمن على السؤال والاستفسار في كل شأن من شئون حياتهن, ولم يصرفهن عن معرفة حقوقهن وواجباتهن ومتطلبات دينهن صارف، وكان من مقتضيات هذا الاهتمام بالعلم النبوي طلب الصحابيات لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان ذلك منهن بدافع من الطاعة والامتثال لأحكام الدين الحنيف.
وقد شملت الكيفيات التي تحملت بها الصحابيات الحديث النبوي طرق التحمل المختلفة, ولم تخرج عن طرق تحمل الصحابة رضوان الله عليهم, وفي ذلك ما فيه من الدلالة على أنه لم يكن هناك فرق بين الرجال والنساء في طلب العلم في العهد النبوي الشريف.
ومن أشهر الطرق في تحمل الحديث النبوي التي شاعت بين الصحابيات ونقلها عنهن التابعيات ومن بعدهن: السماع, حيث حضرت الصحابيات المجالس الخاصة والعامة للمسلمين, بل إن النبي صلى الله عليه وسلم خص يوما للنساء يعظهن ويعلمهن أحكام الدين, وكن يحضرن العبادات الجماعية في المساجد فيسمعن منه صلى الله عليه وسلم, ومن ذلك قدوم النساء إلى البيت النبوي للسؤال، والأمثلة على ذلك كثيرة, مثل ذهاب زينب امرأة عبد الله بن مسعود إليه صلى الله عليه وسلم تسأله عن النفقة والصدقة على الزوج والأقربين (أخرجه البخاري 5/465), وما كان في سبيعة الأسلمية من الشهامة والفطنة, حيث ترددت فيما أفتاها به أبو السنابل من قوله: لم تحلي, وكان زوجها قد توفي فوضعت حملها بعده بليال, فانطلقت بنفسها إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستوضحت منه الحكم في قضيتها وأباح لها أن تتزوج لأن عدتها انقضت بوضع حملها (رواه مالك في الموطأ 2/589).
وكانت المرأة تغتنم فرصة لقاء النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق لتسأله، وقد تعترضه في أثناء أداء مناسكه وحجه, حتى وهو على راحلته تستفتيه فيفتيها, كما حصل للمرأة الخثعمية التي سألته عن الحج عن والدها العجوز (رواه البخاري 2/551).
ومن طرق نقل الحديث النبوي: المكاتبة, التي جاءت نتيجة لاتساع رقعة الدولة الإسلامية ودخول أجناس كثيرة في الإسلام مع حاجتهم إلى فتاوى وأحكام في الأمور المستجدة, مما لم يهتدوا إليه بأنفسهم, فإن الناس يعمدون إلى مكاتبة رءوس العلم ليزودوهم بما لديهم من العلم في قضاياهم, ولما كان أساس ما يفتون به كتاب الله أو ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم, فلا شك في أن تكون هذه الرسائل المبعوثة متضمنة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وتقريراته.
ومثال ذلك ما جاء عن عائشة بنت طلحة, حيث قالت: قلت لعائشة, وأنا في حجرها, وكان الناس يأتوننا من كل مصر, فكان الشيوخ ينتابوني لمكاني منها، وكان الشباب يتأخوني فيهدون إلي ويكتبون إلي من الأمصار, فأقول لعائشة: هذا كتاب فلان وهديته, فتقول لي عائشة: أي بنية, فأجيبيه وأثيبيه, فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك, قالت: فتعطيني (الأدب المفرد للبخاري ص382).
ولقد كان الناس يكاتبون أم المؤمنين عائشة من كل الأقطار يسألونها عن مختلف القضايا, فكانت تجيبهم عن ذلك مكاتبة أيضا بخط يدها, أو تأمر من يكتب لها, وقد كان معاوية يستفتيها ولا يطمئن إلا لردها.
ومن هذه الطرق: الإجازة, وقد اعتمدت بعد أن دونت الأحاديث في الكتب بالأسانيد الموثوقة, فاتخذت طريقة الإجازة تسهيلا وتيسيرا على الشيخ وتلاميذه, وتشير المصادر إلى وجود نساء راويات عرفن بطلب العلم وتحملن بطريق الإجازة, بل وأجزن الرجال, نذكر منهن مثلا: نفيسة وتسمى فاطمة بنت محمد بن علي البزازة البغدادية أخت أبي الفرج بن البزازة, المتوفاة سنة563 هـ, روي عنها: الحافظ عبد الغني, والشيخ الموفق, وأجازت لابن مسلمة (سير أعلام النبلاء 2/489).
ومن الطرق المعروفة أيضا: الوجادة, وهذا اللون يلجأ إليه الراوي إذا لم يتسن له سماع ما وجد من الشيخ مع كونه لقيه وسمع منه, أو إذا لم يلتق بمن يروي عنه وجادة ولم يسمع منه, وقد رصدت بعض النماذج من الروايات تروي الواحدة بالوجادة عن أحد أقاربها لوجود كتابه عندها, فهذه سمانة بنت حمدان، وهي بنت الوضاح بن حسان, تروي عن جدها بقولها: وجدت في كتاب جدي الوضاح بن حسان (تاريخ بغداد 14/440).
وما ذكرناه هنا من نماذج هو غيض من فيض من إسهامات المرأة المسلمة في نقل الحديث النبوي وروايته, وهو ما يعد سابقة إسلامية حضارية في الاعتراف بدور المرأة في كل نواحي الحياة, بل ويعد أمرا محفزا للمرأة في عصرنا الحاضر لكي تنهض وتعمل على الارتقاء بالأمة الإسلامية, كل في مجال تخصصها ومن داخل موقعها, لكي تسهم عن وعي وثقة في بناء حاضر هذه الأمة ومستقبلها.
لقد كان اهتمام أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وغيرهن من الصحابيات بحفظ القرآن الكريم وتعلم معانيه وتعليمه منذ نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم كاهتمام بقية الصحابة علي حد سواء, ولذا وجدنا فيهن حافظات وقارئات لكتاب الله ومفسرات لمعانيه وعالمات بأحكامه.
فممن اشتهر بحفظ القرآن الكريم من أمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهن, وقد عدهن أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره من العلماء والقراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وساق الترمذي في كتاب القراءات من سننه روايات عدة روتها أم المؤمنين عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما توضح أوجها لقراءات القرآن في بعض السور, وتدل هذه القراءات على عناية أمهات المؤمنين بحفظ كتاب الله ونقله كما سمعنه على تنوع قراءاته.
ولم يقتصر حفظ القرآن على أمهات المؤمنين بل حفظه غيرهن من الصحابيات كأم ورقة بنت نوفل رضي الله عنها حيث جمعت القرآن الكريم كله, فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا بدرا قالت له: ائذن لي في الغزو معك، أمرض مرضاكم, لعل الله يرزقني شهادة, قال: «قري في بيتك فإن الله يرزقك الشهادة», فكانت تسمي الشهيدة, وكانت قد قرأت القرآن, وكانت قد دبرت غلاما لها وجارية, فقاما إليها بالليل فغماها بقطيفة لها حتى ماتت وذهبا, فأصبح عمر فقام في الناس فقال: من كان عنده علم من أمر هذين فليجئ بهما, فأمر بهما فصلبا, فكانا أول مصلوب بالمدينة, (سنن أبي داود 1/161).
ولقد كانت لأمهات المؤمنين عناية خاصة بالمصاحف واتخاذها والأمر بكتابتها لهن, فعن أبي يونس مولى عائشة أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238].
فلما بلغتها آذنتها, فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى(وصلاة العصر) وقوموا لله قانتين, قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رواه مسلم 1/734).
وقد أورد مالك عن عمرو بن رافع أنه كان يكتب مصحفا أيضا لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها, (الموطأ 1/931), بل إن المصحف الإمام الذي جمع وكتب أيام خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه محفوظ عند أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها, ثم كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقية حياته, ثم تركه عند حفصة رضي الله عنها, حتى طلب عثمان بن عفان رضي الله عنه الصحف التي عندها، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان, فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف, ثم رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.وبذلك كان لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها دور كبير في حفظ القرآن الكريم وتوحيد الأمة كلها على مصحف واحد.
ولم يقف دور أمهات المؤمنين عند ذلك بل اعتنين رضوان الله عليهن بكتاب الله عز وجل تفسيرا واستنباطا للأحكام, فقد عرف عن أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما تفردهما بمناهج مميزة في تفسير القرآن الكريم, فلقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تفسر القرآن الكريم بالاستعانة بالسنة النبوية الشريفة, كما تفسره باستخدام أسباب النزول, وتفسره تفسيرا لغويا أدبيا يقوم على امتلاكها القدير لناصية اللغة والبيان وإدراكها القوي الحساس لأسرار اللغة والبلاغة, ومن ذلك ما رواه عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة:158] فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي, إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح عليه أن لا يطوف بهما, ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية.
تلك كانت بعض صور عناية الصحابيات في العهد النبوي وبعده بحفظ القرآن وتدبره ومعرفة معانيه وتعليمه المسلمين, وهذا كان دورهن الذي أقامهن الله فيه –كالرجال- لحفظ كتابه مصداقا لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9], فرضي الله تعالى عنهن وعن الصحابة أجمعين.
لم يطلع الله عز وجل عباده على ما في قلوب بعضهم بعضا, فليس من سنته سبحانه وتعالى أن تنكشف القلوب للناس, ومن أطلعه الله من الأنبياء على قلوب عباده فإنه لم يأمره أن يعمل بذلك, بل أمره بالعمل بالظاهر، ولذلك أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل من علم أن في قلبه نفاقا, وقال: إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس, [صحيح البخاري 4/1581], ووجه صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم إلى معاملة الغير بما يظهر من حاله, وعدم العمل بالظن والقرائن غير الجازمة الدالة على باطن مخالف للظاهر, فقال لأسامة بن زيد حين قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله, ظنا منه أنه قالها متعوذا من القتل, فقال صلى الله عليه وسلم: «هلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا», [صحيح مسلم 1/96].
وقال صلى الله عليه وسلم يوما للمختصمين عنده: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع منه, فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار», [صحيح البخاري 2/952].
وبذلك أوجب الله على المسلمين العمل بالظاهر والتثبت من الحقيقة, فلا تكون أحكامهم مبنية على ظنون وأوهام أو دعاوى لا يملكون عليها بينات, وهذا من رحمة الله وتيسيره على عباده, ومن باب تكليفهم بما يطيقون ويستطيعون, بل أوجب الله -عز وجل- ذلك في حالات الحرب, فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:94], ففي الآية تذكير للمؤمنين بأن نعمة الإيمان هي نعمة من الله بها عليهم, وقد كانت هذه النعمة قبل أن يمن عليهم بها مفقودة منهم والذي من عليهم بنعمة الإسلام قادر أن يمن على عدوهم في لحظة القتال, فلا ينبغي أن يستبعد المسلمون أن يهدي الله عدوهم للإسلام في تلك اللحظة. قال الحافظ ابن حجر رحمة الله: «وفي الآية دليل على أن من أظهر شيئا من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره، لأن السلام تحية المسلمين, وكانت تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك, فكانت هذه علامة, [فتح الباري 8/259]; ففي هذا من الفقه باب عظيم, وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر; فلا يتهم إنسان بنفاق من غير بينة أو حتى بعمل إحدى خصال النفاق, ولا يصح بالأولى أن يتهم بكفر أو فسق أو بدعة من غير بينة وإلا فإن أناسا سيقتلون وحرمات ستنتهك بدعوي قائل إنه وقع في قلبه أن هذا رجل منافق فيقتله أو يسجنه أو يبعده, أو إنه كذاب فيعامله بمقتضى ذلك فيحصل فساد عريض, فيتهم البريء, وتنتهك الحرمات بالدعاوى والظنون الكاذبة.
إن خلاف الظاهر هو الظن وقد قال تعالى: (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) [النجم:28], ومحاولة الكشف عن الباطن ضرب من التجسس, وقد قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا) [الحجرات:12].
وبذلك تعلم أن قاعدة الحكم بالظاهر قاعدة عظيمة لو وعاها المسلمون وعملوا في جميع الميادين في الحكم بين الناس وفي الحكم عليهم وفي تقويم إعمالهم لأثر ذلك أكبر الأثر في استقامة المجتمع بإزالة البغضاء ونشر الأخلاق الفاضلة, ولكن من الناس من يحسبون أنهم أذكياء ومن ذوي البصائر النافذة التي تخترق القلوب فتستخرج ما فيها, وتقرأ الغيب في ملامح الوجوه, ولا يعترض هنا معترض بأن الفراسة والتو سم حق; لأننا نقول إن الفراسة أهلها من الذين نور الله قلوبهم بالعلم والإيمان, وهي مع ذلك لا يجوز الحكم بها; لأن صاحب الفراسة مهما علا شأنه فلن يبلغ رتبة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقضي ويحكم بالظاهر, قال الشاطبي: «إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا, وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما, أيضا فإن سيد البشر صلى الله وعليه وسلم مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم, وإن علم بواطن أحوالهم, ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظاهر فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك» [فتح الباري 1/496] فاللهم وفقنا لما يرضيك عنا, واجعلنا ممن يطيعونك فيما تأمر وتنهى.
إن المتأمل في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يقف على مدى الاهتمام بالأخلاق الإسلامية في إطارها العام المتمثل في الأمر بكل بر والنهي عن كل إثم, والبر في أحد معانيه يراد به معاملة الخلق بالإحسان إليهم, قال ابن عمر رضي الله عنهما: البر شيء هين: وجه طلق, وكلام لين.
إن الأخلاق الإسلامية تسمو على كل المذاهب والنظريات الأخلاقية التي لا تزال حائرة تنشد المقياس الخلقي الثابت, ولن يكون ذلك إلا في الهدي الإلهي المحكم, فإن للأخلاق المنبثقة عن الإسلام سمات تتحقق بها ولا تتحقق في غيرها على هذا النحو من الكمال, وذلك لأنها: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة:138] وتصب تلك الأخلاق في مصلحة الفرد والمجتمع وتعد حجر الزاوية في البناء, كما أنها توحد بين الدنيا الآخرة في نظام ليس فيه صراع ولا تناقض, بل قوامه الثبات والعدالة والرحمة الشاملة.
ولذلك كان من خصائص الأخلاق في الإسلام: أنها تكفل الخير للبشرية كلها في كل زمان ومكان, قال تعالى في سبب بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] فبعثته صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين جميعا بما جاء به من الأخلاق لجميع الناس مهما اختلفت الأجناس واللغات.
ومن خصائصها كذلك: أنها سمحة وسهلة ويسيرة, ليس فيها تكليف بما لا يطاق، وليس فيها إرهاق ولا عنت, قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة:286].
وما تمتاز به الأخلاق في الإسلام الثبات, وذلك لأن المشرع الحكيم راعى فيها كفالة الخير الدائم العام, فهي ليست نسبية تتغير من فرد إلى فرد, ومن مجتمع إلى مجتمع, ومن زمان إلى زمان, ولا تمليها المصلحة ولا تسيرها المنفعة, بل هي ثابتة لا تتغير, لأنها من عند الله عز وجل, وقد بين الله تعالى جملة الأخلاق الصالحة والآداب الحميدة في القرآن الكريم والسنة النبوية بيانا ليس فيه لبس ولا غموض ليحفظ للمجتمع المسلم تماسكه أفرادا وأسرا وجماعات, وليقيم له وحدثته المتراصة وشخصيته المتميزة التي تجعله خير الأمم.
ومن سمات الأخلاق الإسلامية أيضا: أنها توصف بالعموم فلم تدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية إلا رسمت له المنهج الأمثل للسلوك, فما فرقته البشرية في مجال الأخلاق باسم الدين وباسم الفلسفة وباسم العرف أو المجتمع مما هو حق قد ضمه القانون الأخلاقي الإسلامي.
لقد نظم ذلك القانون علاقة الإنسان بخالقه, وعلاقته بنفسه, وعلاقته ببني جنسه, بل وبكل عناصر الكون, وهذا دليل التكامل والشمول النابعين من وحدة العقيدة بالأخلاق الإسلامية تعبر عن مطالب الإنسان الفرد وعن مطالب الجماعة تعبيرا متكاملا ينتهي بغرائزها ومشتهياتها إلى غاياتها المشروعة الصحيحة، فهي لا تكتفي بمجرد وضع المثل الأعلى للسلوك العقلي الذي ينشده الإنسان بعقله فقط بل إنها تقيم المثل الأعلى للإنسان في جميع أنماط سلوكه الوجدانية والغريزية والعقلية, وهي لا تقوم على العصبية أو التفرقة العنصرية, بل هي عامة للبشرية في أي مكان علي وجه الأرض, لأنها مشتقة من الفطرة الإنسانية الأصلية, كما أنها شاملة للإنسان في ذاته قلبا وقالبا فتخلق فيه وحدة ذاتية متكاملة لا تنفصم عراها ولا يختل انسجامها وتوازنها, إذ هي مستمدة من عقيدة التوحيد الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله: والشريعة الإسلامية لأنها قائمة على الفضيلة ومشتقة من الفطرة الإنسانية كانت في نظم الأخلاق عامة لا تخص إقليما دون إقليم وليست للعرب وحدهم, ولكنها للناس جميعا, لأن الأساس الخلقي الفاضل الذي قامت عليه يعم العالم كله ولا يخص جنسا أو لونا أو أرضا معينة، فهي تحقق الوحدة القانونية كما هي جامعة لمعاني الفضيلة التي تتفق اتفاقا تاما وطبيعة الإنسان كما توائم بين الفرد والمجتمع, المجتمع الإنساني في ظل الإسلام [ص347].
ومن هنا فقد ساعدت الأخلاق الإسلامية على تكوين شخصية إنسانية سوية موحدة الجوانب هادفة إلى المثل الأعلى للسلوك الواقعي العملي التطبيقي بما يجعل صاحبها يسير في اتجاه صحيح مع بقية أفراد المجتمع, كما تحقق التوازن بين الروح والمادة, وبين العقل والبصيرة, ولكنه توازن بكل ما تحمل الكلمة من معان, وما ذلك إلا لأن الأخلاق الإسلامية تستهدف النفس الإنسانية بكل قواها وفي كل أعماقها, ولأنها تدعو جميع الناس في جميع الطبقات ومن جميع درجات العقل, كما أنها تقوم على دفع المضار والأذى, ثم على التعاون والرحمة والإيثار لبناء الأخوة الثابتة والعرى الوثيقة للإنسانية كافة, وبهذا يتحقق تماسك الفرد في ذاته, ويستقيم كيان المجتمع في بنائه, وتنتشر القيم العليا في الكون كله.
يختلف الناس في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافا بينا, ويظهر ذلك في استقبال المحن والمنح, والنعم والنقم, والترغيب والترهيب, والفقر والغنى, والصحة والمرض, وغير ذلك من أحوال الإنسان في هذه الدنيا.
وأقوم الناس طريقة من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان; فلا تضره فتنة ولا تزعزعه شبهة ولا تغلبه شهوة, فتجده وقد فهم الحياة نعمة ونقمة, ومحنة ومنحة, ويسرا وعسرا, ثم أقام موازنة, فوجد أن الدهر يومان: ذو أمن وذو خطر، والعيش عيشان; ذو صفو وذو كدر, فضبط نفسه في الحالين: فلم ييأس على ما فات, ولم يفرح بما هو آت: فلا تجده ذا خيلاء عند غناء, ولا حزنا عند فقره, يقلق من الدنيا, ولا يقلق على الدنيا أبدا, والسر في ذلك الإيمان الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه فاطمأن فلا تؤثر فيه الفتن ولا تختلف نفسه باختلاف أحواله إلا بالترقي من مقام إلى مقام.
وإنما بنى هذا الصنف من الناس نفسه على عدة عوامل, منها:
التقرب إلى الله عز وجل بما يجب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وخير ما تقرب به المتقربون إلى الله تعالى الفرائض التي فرضها عليهم, ثم إن في النوافل لمجالا واسعا عظيما لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله, وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء.
ومن عوامل بناء النفس: محاسبتها محاسبة دقيقة: فالنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات, فلابد لها من محاسبة, والكل لا يشك أننا إلى الله راجعون, محاسبون على الصغير والكبير, قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47] ومن حاسب نفسه علم عيوبها وزلاتها ومواطن الضعف فيها, فبدأ بعلاجها ووصف الدواء لها, فينمي ذلك في النفس الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق, ألا وهو ميزان الشرع.
ومن أهم عوامل بناء النفس: تعلم القدر المفروض من العلم المقرب إلى الله تعالى والعمل به, واتباع العلماء الحاملين لميراث النبوة. وهذا لأن العبادة بلا علم توقع في سوء فهم للدين بالتشدد الذي يصرف الناس عن دين الله أو بالتساهل الذي يفك عرى الدين, وما انتشرت الأفكار الغريبة عن مجتمعنا في هذا العصر إلا عن جهل غير المتخصصين غالبا.
الوقوف على بعض أخبار العلماء والصالحين من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس, وتدفع النفس الضعيفة إلى تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة والمقاصد الجليلة, وتبعث فيها روح التأسي بذوي التضحيات في سبيل العلم لتسمو إلى أعلى الدرجات.ومن عوامل بناء النفس: المداومة على العمل وإن قل; لأن المداومة على الأعمال الصالحة والاستمرار عليها تثبيت وترويض للنفس البشرية لمواجهة أعباء الطريق وتكاليفه, وصرف لمكائد الشيطان ونوازعه, فإذا عود المرء نفسه على الفضائل انقادت له, وإذا تهاون فأقدم مرة وأحجم مرة كان إلى النكوص أقرب, والشيطان إذا رآك مداوما على طاعة الله عز وجل ملك ورفضك, وإن رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك; فداوم على الطاعات; فإن الله من فضله وكرمه أنه إذا جاء ما يصرفك عن أداء الطاعات من عجز ومرض وفتنة منح كالأجر كما كنت صحيحا.
ومن عوامل بناء النفس أيضا: مجالسة من رؤيتهم تذكر بالله عز وجل، فمجالستهم تريك ما في نفسك من قصور وضعف وعيوب فتصلحها وتهذبها, فهم زينة الرخاء وعدة البلاء يذكرونك إن نسيت, ويرشدونك إن جهلت, يأخذون بيدك إن ضعفت, مرآة لك ولأعمالك, إن افتقرت أغنوك, وإن دعوا الله لن ينسوك: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم (صحيح مسلم 4/2069).
ومنها: الدعاء فهو أهم عامل في بناء النفس, إذ هو العبادة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم, وهو من صفات عباد الرحمن المذكورة في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74].
ومن عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله الذي يهدي القلوب والعقول الحائرة (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء:82], وكذا الوقوف عند أسماء الله الحسنى وصفاته العلا: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180] فإن وقفة واحدة مع أسماء الله وصفاته الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم التمثل بها، تعلقا وتخلقا وتحققا, كل ذلك يبني النفس بناء لا يتزلزل ولا يحيد.. فاللهم ابن أنفسنا بناء ينزع منها كل قبيح, ويغرس مكانه كل مليح, ويبصرنا بكل ما هو صحيح صريح, إنك نعم المولى ونعم النصير.
لقد جاءت السنة النبوية الشريفة لتبين آيات القرآن, من قبيل بيان المجمل وتوضيح المشكل وتخصيص العام وتقييد المطلق, ومن جملة ما بينته السنة أسباب نزول آيات القرآن, وهي تمثل ركنا أصيلا في فهمها, فإن كثيرا من آيات القرآن لا يمكن فهمها فهما صحيحا بمعزل عن معرفة سبب نزولها, ومهما حاول المفسر الوصول إلى مقصد النص القرآني بعيدا عن سبب نزوله فإنه لا يزداد إلا تخبطا وبعدا عن المعنى المقصود من النص.
وسبب النزول -كما عرفه الزرقاني- هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبينة لحكمه أيام وقوعه. (مناهل العرفان 1/76).
ومن هنا أهمية معرفة سبب نزول الآية, قال القشيري: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز (البرهان للزركشي 1/22).
ولسبب النزول فوائد جمة: منها أنه يبين وجه الحكمة الباعثة على التشريع، ومن أمثلة ذلك ما نجده في سبب نزول آيات الملاعنة: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [النور:6-7] فقد روى البخاري عن سهل بن سعد أنها نزلت عندما سأل عويمر العجلاني النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فنزلت الآيات. (البخاري 4/1771) فوضح سبب نزول الآيات -كما ورد في السنة- الحكمة الباعثة على تشريع اللعان وأنه صورة استثنائية لا تدخل في حد القذف.
كما تفيد معرفة سبب النزول في الوقوف على المعنى كاملا وتعين على فهم النص القرآني فهما صحيحا, ومثال ذلك قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195] فإنا نقف على بيان معنى التهلكة إذا رجعنا إلى حديث أبي عمران التجيبي أنه قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر, وعلى أهل مصر عقبة بن عامر, وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله, يلقي بنفسه إلى التهلكة؟! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل, وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه, فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت, وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه, فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها, فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلناه (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو. (أبو داود 3/12)أي الغزو المراد منه الدعوة إلى الخير وصد العدوان.
ومن فوائد معرفة سبب النزول أيضا: أنه يزيل الإشكال الذي يمكن أن يحدثه ظاهر النص القرآني, ومن ذلك ما جاء عن مروان بن الحكم انه قال لبوابه: اذهب إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون.
ويقصد مروان قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) [آل عمران:188] فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية, إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود وسألهم عن شيء فكتموه إياه واخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما اخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم. (البخاري 4/1665).
ومن فوائده كذلك: أنه يدفع توهم أن يكون النص قد حصر الحكم في الإفراد التي ذكرها, فقوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) [الأنعام:145] ظاهره يفيد حصر المحرمات من الأطعمة في هذه الأصناف الأربعة, ولكن بالعودة إلى سبب نزول هذه الآية تبين أن الحصر متوهم, فقد ذكر الشافعي أن الآية نزلت لترد على المشركين حين أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله فناقضوا الشريعة, فأراد البيان الإلهي أن يرد عليهم مناقضتهم فنزلت الآية, وكأنه يقول فيها: لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه والغرض من ذلك المضادة لا النفي ولا الإثبات على الحقيقة. (البرهان 1/23).
والحاصل أن قواعد الفهم السليم اقتضت أن يستعان بسبب النزول -الذي هو من السنة- في بيان النص القرآني المعجز والوقوف على المعنى الكامل والصحيح للآيات.
السنة النبوية وحي من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي يتبع ما يوحى إليه في جميع أفعاله وأقواله, قال تعالى في أصل رسالة نبيه: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الأحقاف:9].
فكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من فعل أو قول هو شرح وتوضيح لما أنزله الله عز وجل, قال الرازي في تفسيره: إن الرسول هو المبين لكل ما أنزله الله تعالى على المكلفين (مفاتيح الغيب 20/31).
وقد كان الصحابة إذا أشكل عليهم شيء من كتاب الله عز وجل يرجعون إليه صلى الله عليه وسلم فيبين لهم ما خفي عنهم, ويفصل لهم ما أجمل فيه, لذلك أضحت السنة ضرورية للوصول إلى الفهم الصحيح والتدبر السليم لآيات القرآن الحكيم.
وهذه الشروح والأحكام التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي من وحي الله عز وجل كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:44], ولذلك قال الإمام الشافعي: كل ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن.
وقال السيوطي: من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولا من القرآن, فما أجمل منه في مكان فقد فسر في موضع آخر, وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر منه, ثم قال: فإن أعياه ذلك طلبه من السنة, فإنها شارحة للقرآن وموضحة له (الإتقان في علوم القرآن 2/434).
ومن هنا أيضا أكد الإمام الشاطبي رحمه الله أن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هي بيان للكتاب, قال: لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنة, لأنه إذا كان كليا، وفيه أمور كلية, كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها فلا محيص من النظر في بيانه (الموافقات 3/369).
والتفسير النبوي للقرآن الكريم هو كل ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم تفسيرا وافيا لما في القرآن; من بيان لمجمل, أو توضيح لمشكل, أو تقييد لمطلق, أو إفهام لمعنى كلمة أو شرح جملة, أو زيادة حكم فهمه من القرآن; قال القرطبي: البيان منه صلى الله عليه وسلم على ضربين: بيان لمجمل في الكتاب كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر أحكامها, وكبيانه مقدار الزكاة ووقتها, أما النوع الآخر فهو زيادة على حكم الكتاب كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها, وتحريم الحمر الأهلية (الجامع لأحكام القرآن 1/72).
ومن الأمثلة الواضحة لبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما نزلت آية (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) [البقرة:187] عمد عدي بن حاتم رضي الله عنه إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض, فجعلهما تحت وسادته, فجعل ينظر في الليل فلا يستبين له, فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك, فقال: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار» (البخاري 2/677).
وقد انتهج النبي صلى الله عليه وسلم منهجا وسطا في التوضيح, فلم يسهب في الشرح وذكر ما لا فائدة منه, إنما اهتم ببيان المعاني الضرورية التي لا تحتمل تأخيرا, أو تلك التي لا يمكن معرفتها إلا عن طريقه, أما فيما عدا ذلك فقد تركه للمسلمين ليشحذوا فيه زناد عقولهم تفكيرا وتدبرا.
وعلى هذا النهج فصلت السنة مجمل القرآن الكريم في مسائل كثيرة; ومن ذلك قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة:43], فقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال أفعاله وأحاديث عدد ركعات الصلاة وكيفيتها, ومقدار الزكاة ونصابها.
كما خصص عليه الصلاة والسلام العام, ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام:82] شق ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله, أينا لا يظلم نفسه؟ قال: «ليس ذلك, إنما هو الشرك» (البخاري 6/2542).
وكذلك قيد المطلق, حيث حددت السنة القطع في السرقة باليد اليمنى من المفصل وذلك شرحا لآية: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة:38], كما أوضح المبهم مثل قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) [البقرة:238] فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها صلاة العصر (البخاري 5/2349).
إننا إذا أعدنا الفكر والتأمل في هذه المسائل ندرك أنه لا سبيل إلى فهم القرآن الكريم إلا مقرونا بالسنة النبوية المشرفة, ذلك أن السنة النبوية والقرآن الكريم كليهما وحي من الله عز وجل, مصداقا لقوله سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4].